الجواب :
الحمد لله
أولا :
يقول
الله عز وجل في كتابه الكريم : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ
بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الزمر/55
قال ابن جرير الطبري رحمه الله :
"
يقول تعالى ذكره : واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله ،
واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه ، وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا .
فإن
قال قائل : ومن القرآن شيء هو أحسن من شيء ؟ قيل له : القرآن كله حسن ،
وليس معنى ذلك ما توهمت ، وإنما معناه : واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من
الأمر والنهي والخبر ، والمثل ، والقصص ، والجدل ، والوعد والوعيد ؛ أحسنه
أن تأتمروا لأمره ، وتنتهوا عما نهى عنه ؛ لأن النهي مما أنزل في الكتاب ،
فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه ، فذلك وجهه " انتهى . "تفسير
الطبري" (21/ 312)
وقال البغوي رحمه الله :
"
( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني :
القرآن ، والقرآن كله حسن ، ومعنى الآية ما قاله الحسن : التزموا طاعته
واجتنبوا معصيته ، فإن القرآن ذكر القبيح لتجتنبه ، وذكر الأدون لئلا ترغب
فيه ، وذكر الأحسن لتؤثره . قال السدي : " الأحسن " ما أمر الله به في
الكتاب " انتهى .
"تفسير البغوي" (7/ 128)
وقال السعدي رحمه الله :
(
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) مما أمركم
من الأعمال الباطنة ، كمحبة اللّه ، وخشيته ، وخوفه ، ورجائه ، والنصح
لعباده ، ومحبة الخير لهم ، وترك ما يضاد ذلك .
ومن
الأعمال الظاهرة ، كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والصدقة ،
وأنواع الإحسان ، ونحو ذلك ، مما أمر اللّه به ، وهو أحسن ما أنزل إلينا من
ربنا ، فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها هو المنيب المسلم " انتهى
.
"تفسير السعدي" ( ص 727-728) .
فالحاصل من ذلك : أن اتباع أحسن ما أنزل الله : هو الائتمار بأمره ، والانتهاء بنهيه .
قال الإمام الآجري رحمه الله :
"
فكل كلام ربنا حسن لمن تلاه ولمن استمع إليه ، وإنما هذا - والله أعلم -
صفة قوم إذا سمعوا القرآن تتبعوا من القرآن أحسن ما يتقربون به إلى الله
تعالى ، مما دلهم عليه مولاهم الكريم ، يطلبون بذلك رضاه ، ويرجون رحمته " .
"أخلاق حملة القرآن" (
.
ثانيا :
لا
يتم هذا الاتباع المأمور به إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛
لأن ذلك مما أُنزِل إلينا من ربنا ، كما قال تعالى : ( قُلْ أَطِيعُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْكَافِرِينَ ) آل عمران/32
وقال تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) آل عمران/132
وقال تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الأنفال/1
وقال
سبحانه : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء/65 .
فالسنة
مبينة لمراد الله في كتابه ، قال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ ) النحل / 44.
ثالثا :
السنة وحي منزل من عند الله . قال الله تعالى :
(
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا
لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا )
النساء/113 ، وقال تعالى لأمهات المؤمنين : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي
بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
لَطِيفًا خَبِيرًا ) الأحزاب/34 .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
"
فذكر الله الكتاب وهو القرآن ، وذكر الحكمة ؛ فسمعت من أرضى من أهل العلم
بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله . وهذا يشبه ما قال والله أعلم ؛ لأن
القرآن ذُكر ، وأتبعته الحكمة ، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب
والحكمة ؛ فلم يجز الله ـ والله اعلم ـ أن يقال : الحكمة ـ ها هنا ـ إلا
سنة رسول الله ؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة
رسوله ، وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقول : فرض ؛ إلا
لكتاب الله ، ثم سنة رسوله ؛ لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله
مقرونا بالإيمان به
" . انتهى . "الرسالة" (78) .
وروى
أبو داود (4604) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَلَا إِنِّي
أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) وصححه الألباني في "صحيح أبي
داود" .
وروى
أبو داود (4605) والترمذي (2663) وابن ماجة (13) عن أَبِي رَافِعٍ رضي
الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ
الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ
فَيَقُولُ : لَا نَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ
اتَّبَعْنَاهُ ، وإلا فَلاَ ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" وغيره .
وروى
الترمذي (2664) وابن ماجة (12) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ
الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : ( يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ
بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ
وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ . أَلَّا وَإِنَّ مَا
حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ ) .
صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
وعن
إسماعيل بن عبيد الله قال : " ينبغي لنا أن نحفظ ما جاءنا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الله يقول : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا ) فهو عندنا بمنزلة القرآن " .
"السنة" لمحمد بن نصر المروزي (ص 88)
وعن حسان بن عطية قال : " كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيعلمه السنة كما يعلمه القرآن " .
"الزهد" لابن المبارك (ص 23)
وقال ابن القيم رحمه الله :
"
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله ،
وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به
على الكتاب ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو
لم يكن فيه ، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر
استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول ؛ إيذانا بأنهم إنما
يطاعون تبعا لطاعة الرسول ، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ، ومن
أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة " انتهى .
"إعلام الموقعين" (1 / 48)
وقال أيضا :
"
أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله وحيين وأوجب على عباده الإيمان بهما
والعمل بما فيهما ، وهما الكتاب والحكمة ، وقال تعالى : ( وأنزل الله عليك
الكتاب والحكمة ) وقال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو
عليهم آياته ويزكيهم ويعلهم الكتاب والحكمة ) وقال تعالى : ( واذكرن ما
يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) .
والكتاب هو القرآن ، والحكمة هي السنة باتفاق السلف .
وما
أخبر به الرسول عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب
تعالى على لسان رسوله ، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام ، لا ينكره إلا
من ليس منهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني أوتيت الكتاب
ومثله معه ) " انتهى .
"الروح" (ص 75) .
فتبين
بذلك أن السنة هي وحي من عند الله ، وأنها لازمة الطاعة والاتباع على كل
من آمن بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان هذا مراد السائل ،
فقد تبين كلام أهل العلم فيه ، وإلا فبينهما من الفروق الأخرى أشياء كثيرة :
فالقرآن
هو كتاب الله تعالى ، الذي أنزله على رسوله وحيا باللفظ والمعنى ، وهو
معجِز ومتعبَّد بتلاوته ، ولا تجوز روايته بالمعنى ، ولا يجوز مسه للمحدث
حتى يتطهر .
بخلاف
السنة فإن لفظها من عند الرسول ، وهو غير معجِز ، وتجوز روايتها بالمعنى
لمن لا يُخِلُّ به ، ولا يَحْرُم مَسُّها على المُحدِث .
والقرآن يتعبد بتلاوته في الصلوات بخلاف السنة ، فإنه لا يجوز أن يقرأ بها في الصلوات .
ومن كذب بحرف واحد من كتاب الله كفر ، وليس كذلك الحال في السنة .
وهناك فروق أخرى ، يمكن مراجعتها في بابه من كتب علوم القرآن والسنة ، وكتب أصول الفقه .
والله أعلم .